منوعات

كتاب جديد عن الصناعات الإبداعية في دولة الإمارات بقلم إيغور شَراي

في دبي، حيث تخترق أبراج الزجاج الأفق، وتنهض جزر كاملة من قلب البحر وكأنها وُلدت من سحرٍ أسطوري، تبدو مسيرة المدينة أشبه بحكاية ميثولوجية منها بمشروع عمراني. غير أنّ خلف المشهد الباذخ تختبئ دراما أكثر هدوءاً ولادة اقتصاد إبداعي يعيد تعريف الهوية والقيمة والطموح على المسرح العالمي. إيغور شَراي الصحافي والمحلّل الثقافي وصاحب كتاب «دبي: فن الثروة» – كرّس السنوات الست عشرة الماضية لتوثيق هذا التحوّل. كتابه، وهو بمثابة فسيفساء من الحوارات مع فنانين ومعماريين ورؤيويين، يتتبع كيف نجحت دولة الإمارات في نسج الهجرة والخيال والاستعارة لتطلق نهضة جديدة بكل معنى الكلمة. في هذا الحوار، يكشف شَراي عن «الكيمياء» التي تحوّل النفط إلى ثقافة، ويتأمل مفارقة التمسك بالتقاليد في مدينةٍ مولعة بالمستقبل، ويشرح لماذا قد تصبح الإبداعية في عصر الخوارزميات أندر أشكال الثروة الإنسانية.

يصف كتابك تطوّر دبي بأنّه «نهضة القرن الحادي والعشرين». ما أوجه الشبه التي تراها بين فلورنسا في عصر الكواتروتشنتو والإمارات اليوم؟

النهضة لم تكن زمناً محدداً بقدر ما كانت ذهنية إيماناً بأن العبقرية البشرية قادرة على إعادة رسم حدود الممكن. دبي تجسّد هذا في جرأتها. خذ مثلاً رعاية آل ميديتشي للفنانين؛ فقد اعتبروهم مهندسي الهوية. وبالطريقة نفسها، لم يكتفِ قادة الإمارات ببناء المتاحف، بل ابتكروا أنظمة بيئية متكاملة. «التأشيرة الذهبية» التي فتحت أبوابها للمبدعين حول العالم تُذكّر بعناق لورينزو دي ميديتشي لأصحاب المواهب المتعددة. لكن هنا، الطموح يتضاعف أضعافاً. حيث امتلكت فلورنسا قبة برونليسكي، تملك دبي «متحف المستقبل» – مبنى يشكّل بياناً معمارياً بحد ذاته. المشترك بين اللحظتين هو الاعتقاد بأن الثقافة ليست زينة، بل أساس السيادة.

وصفت سوق الفن في دبي بأنه «معجزة العرض والطلب». كيف يتعايش البذخ مع أصالة الفن هنا؟

على السطح، قد يبدو المشهد امتداداً لعصر الترف، حيث يتنافس الأثرياء في المزادات على اللوحات الأيقونية في صالات «مركز دبي المالي العالمي». لكن إذا تعمقنا، نجد أنّ «مجموعة دبي» تقدّم نموذجاً مغايراً للرعاية. فهي تنسّق المجموعات الخاصة ضمن متحف افتراضي عام، لتوسّع دائرة الوصول مع احترام الملكية. هذا ليس عملاً خيرياً، بل رؤية استراتيجية. البذخ هنا لا يُختزل في الإطارات المذهّبة، بل في المساحة: من مستودعات «السركال أفنيو» المعاد توظيفها إلى استوديوهات التصميم في «دي ثري»، تمنح المدينة حيّزاً للتجريب. والنتيجة؟ جدارية مستوحاة من البدو بريشة فنان إسباني تتحوّل إلى عملة ثقافية. الأصالة تزدهر عندما يتناغم الاقتصاد مع فن التنظيم.

في عصر التنقّل الرقمي، لماذا يحتاج المبدعون إلى الاجتماع جسدياً في فضاءات مثل «السركال أفنيو»؟

التقنية تعدنا بالحضور في كل مكان، لكن الإبداع يحتاج إلى صدام الأفكار. لا يمكن لمنصة افتراضية أن تحلّ محل اللقاء العابر في مقهى «الكورتيارد»، حيث يُلهم أرشيفي غاني للّوحات الموسيقية فناناً إماراتياً في النحت. المنصات الرقمية توزّع الفن، أما الأمكنة المادية فتحتضنه. دبي تفهم أنّ المجتمع هو البنية التحتية الحقيقية. عبقرية «التأشيرة الذهبية» لا تكمن فقط في جذب المواهب، بل في صناعة مجتمعات صغيرة رسامون يناقشون رموزاً معاصرة، واستوديوهات ألعاب تطوّر روايات للميتافيرس. هذه التفاعلات تولّد ما لا تستطيع الرموز الرقمية إنتاجه: حمضاً نووياً ثقافياً مشتركاً.

سكان دبي 90% منهم من الوافدين. هل يمكن أن تنشأ «هوية ثقافية» وسط هذا الطابع العابر؟

الهوية ليست كتلة صلبة، بل فسيفساء. قوة الإمارات تكمن في تحويل التعددية إلى انسجام. خذي مثلاً رؤية الشيخة لطيفة: «الناس هنا لا يذوبون في نسيج واحد؛ بل يتعايشون وتُحتفى فرادتهم». في عروض اليوم الوطني نرى راقصين فلبينيين إلى جانب فرق «العيّالة» الإماراتية. وقبة «اللوفر أبوظبي» تسمح لأشعة الصحراء أن تتسلل فوق قطع أثرية من شتى الحضارات، لتهمس بأن الانتماء لا يحتاج إلى ذوبان. ومع ذلك، يبقى الجذر محلياً من الغواصين على اللؤلؤ المخلّدين في شلالات المراكز التجارية إلى فنون الخط التي أعاد صياغتها أحمد مصطفى.

مع تحوّل الذكاء الاصطناعي إلى لاعب رئيسي، ما الدور الذي سيبقى للفنان في دبي خلال الخمسين سنة المقبلة؟

الذكاء الاصطناعي بارع في التكرار، أما الإنسان فيملك التطلّع. مستقبل دبي يتوقف على ترقية الفنان من «مُنتِج» إلى «صانع معنى». في «متحف المستقبل» لا يكتفي الزوار بمشاهدة الخوارزميات، بل يحاورونها: «كيف سيبدو الانسجام عام 2071؟». هذا يعيدنا إلى تحوّل النهضة من الحرفة إلى الفكرة. «أوركسترا الفردوس» – التي تضم موسيقيات من عشرين جنسية مثال حي. قد تتمكن التقنية من إنتاج السمفونيات، لكن الإنسان وحده قادر على صياغة نشيد للتعايش بين الكواكب. مهمة دبي؟ أن تكون القيّم على الوعي في عصر الخوارزميات.

خاتمة: عُملة الأحلام رؤية شَراي تتجاوز الاقتصاد. ففي دبي، كما يقول، «فن الثروة» ليس في التكديس، بل في الترجمة: من الدولارات النفطية إلى دور أوبرا، ومن أحلام المهاجرين إلى جداريات، ومن الخوارزميات إلى لحظات دهشة. ومع اقتراب الدولة من استضافة مؤتمر المجلس الدولي للمتاحف عام 2025، تبرز أعظم تحفها: مجتمع تُقاس فيه الرفاهية ليس بالذهب، بل بالقدرة على التخيل. «النهضة»، يتأمل شَراي، «كانت بداية. هنا، هي حالة صيرورة دائمة». يمكن تحميل الكتاب بالإنكليزية على موقع «أمازون»، وباللغة الروسية عبر منصة «ليترِس».

Leave a Comment